فصل: سنة سبع وستين وست مائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 سنة ثلاث وستين وست مائة

فيها كانت ملحمة عظيمة بالأندلس التقى فيها ملك الفرنج وأبو عبد الله بن الأحمر سلطان المسلمين ثم انهزم الملاعين وأسر ملكهم ثم أفلت وحشد وجيش ونازل غرناطة فخرج إليهم ابن الأحمر وكسرهم أيضاً وأسر منهم عشرة آلاف وقتل مسلمون منهم فوق الأربعين ألفاً وجمعوا كوماً هائلاً من رؤوس الفرنج وأذن عليه مسلمون واستعادوا عدة مداين من الفرنج‏.‏

وفيها قدم السلطان فحاصر قيسارية وافتتحها عنوة وغصب القلعة أياماً ثم أخذت مع غيرها بالسيف ثم رجع فسلطن ولده الملك السعيد المغفور‏.‏

وفيها جدد بديار مصر أربعة حكام من المذاهب لأجل توقف تاج الدين ابن بنت الأغر عن تنفيذ كثير من القضايا فتعطلت الأمور فأشار بهذا جمال الدين أيد غدي العزيزي فأعجب السلطان وفعله في آخر السنة ثم فعل ذلك بدمشق‏.‏

وفيها ابتدئ لعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففرغ في أربع سنسن‏.‏

وفيها حجب الخليفة الحاكم بقلعة الجبل‏.‏

وفيها توفي المعين المقرئ القرشي المحدث المتقن أبو إسحاق إبراهيم بن عمر كتب فأكثر وتوفي فجاءة‏.‏

وفيها توفي الحافظ ابن السيد محمد بن يوسف الأزدي الغرناطي سمع من جماعة كثيرة وجمع وصنف‏.‏

وفيها توفي بمكة بدر الدين السنجاري الشافعي قاضي القضاة أبو المحاسن يوسف بن الحسن الزرادي كان صدراً معظما جواداً ممدحاً ولي قضاء بعلبك وغيرها ثم ولاه الملك الصالح عجم الدين أيوب مصر والوجه القبلي ثم ولي قضاء القضاة بعد شرف الدين ابن عين الدولة وباشر الوزارة وكان له من الخيل والمماليك ما ليس لوزير مثله ولم يزل في الارتفاع إلى أوائل الدولة الظاهرية فعزل ولزم بيته‏.‏

فيها توفي عز الدين الملك الظاهر ورتب جيوشه بالسواحل فأغاروا على بلاد عكا وصور وطرابلس وحصن الأكراد ثم نزلوا على صفد فأخذت في أربعين يوماً خديعة ثم ضربت رقاب مائتين عن فرسانهم وقد استشهد عليها خلق كثير وفيها استباح المسلمون داره وسبي منها ألف نفس وجعلت كنيستها جامعاً

وفيها توفي الإمام جمال الدين أحمد بن عبد الله بن شعيب اليمني الصقلي ثم الدمشقي المقرئ الأديب وأيد غدي العزيزي الأمير الكبير جمال الدين‏.‏

كان جليل القدر شجاعاً مقداماً عاقلاً محتشماً كثير الصدقات حسن الديانة من جلة الأمراء ومتميزيهم حبسه المعز مدة ثم أخرجه يوم عين جالوت وكان الملك الظاهر يحترمه ويتأدب معه‏.‏

جهزه في هذه السنة فأغار على بلادسيس ثم خرج على صفد فمرض وتوفي ليلة عرفة بدمشق‏.‏

وفيها توفي الشيخ أحمد بن سالم المصري النحوي نزيل دمشق كان فقيراً زاهداً مترحلاً محققاً للعربية‏.‏

وفيها توفي ابن صصري بهاء الدين الحسن بن سالم الثعلبي الدمشقي وأخوه شرف الدين عبد الرحمن بن سالم‏.‏

أولى مناصبهم الكبار ونظر الديوان وهولاو ابن قاان المغل مقدم التتار وقائد الكفار إلى عذاب النار الذي أباد البلاد والعباد‏.‏

بعثه ابن عمه القاان الكبير على جيش المغل فطوى الممالك وأخذ حصون الإسماعيلية وأذربيجان والروم والعراق والجزيرة والشام وكان ذا سطوة ومهابة وعقل وغور وحزم ودهاء وخبرة بالحروب وشجاعة ظاهرة وكرم مفرط ومحبة لعلوم الأوائل من غير فهمه لها وكان يصرع في اليوم مرة ومرتين منذ قتل الشهيد الملك الكامل محمد بن غازي ومات على كفره في السنة المذكورة وقيل‏:‏ في التي قبلها وخلف تسعة عشر ابناً تملك عليهم ابنه أبغا وكان القاان قد استناب بهولاو على خراسان ما يفتتحه‏.‏

سنة خمس وستين وست مائة في أولها كبا الفرس بالملك الظاهر فانكسرت فخذه وحدث له منها عرج‏.‏

وفيها توفي خطيب القدس كمال الدين أحمد بن نعمة النابلسي كان صالحاً متعبداً متزهداً‏.‏

وفيها توفي الشيخ القدوة الكبير إسماعيل الكوراني صاحب صدق وتحقيق وورع دقيق‏.‏

ملتفت إليه بالإشارة والقصد بالزيارة‏.‏

وفيها توفي الفاضل العلامة المعروف بأبي شامة لشامة كبيرة فوق حاجبه‏.‏

عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الإسكندرية ثم الدمشقي الشافعي المقرئ النحوي المؤرخ قرأ القراءات وأتقنها على السخاوي وسمع الحديث من جماعة وأتقن الفقه وبرع فيه وفي النحو وصنف كتباً جمة فمن ذلك كتاب ‏"‏ البسملة ‏"‏ في مجلد كبير نصر فيه المذهب وكتاب ‏"‏ الروضتين في الدولتين النووية والصلاحية ‏"‏ واختصر تاريخ دمشق ابن عساكر في خمسة عشر مجلداً ضخاماً ثم اختصره في خمس مجلدات وكتاب ‏"‏ شرح الشاطبية ‏"‏ وهو في غاية الجودة ونظم مفصل الزمخشري وكتب عديدة أخرى وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية وكان متواضعاً خيراً رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها توفي ابن بنت الأعز قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن خلف المصرفي الشافعي‏.‏

صدر الديار المصرية ورئيسها كان ذا ذهن ثاقب وحدس صائب ونزاهة متثبت في الأحكام روى عن جعفر الهمداني وتوفي في السابع والعشرين من رجب‏.‏

وفيها توفي ابن القسطلاني الشيخ تاج الدين علي ابن الشيخ الزاهد القدوة أبي العباس أحمد بن علي القيسي المصرفي المالكي المفتي سمع بمكة من طائفة كثيرة ودرس بمصر وولي مشيخة الكاملية إلى أن توفي في سابع شوال وله سبع وسبعون سنة قلت‏:‏ هذا الملقب بتاج الدين كما ترى وليس هو قطب الدين بن القسطلاني وقد يشتبه ذلك على من ليس عنده علم فإنهما مشتركان في أوصاف متعددة وكلاهما ابن القسطلاني وكلا أبويهما اسمه أحمد وأبو العباس كنيته وكلاهما زاهد وعالم ومصري ومالكي وكلا الوالدين عالم ومدرس ومفتي وشيخ الحديث في الكاملية ولكن قطب الدين متأخر يأتي في سنة ست وثمانين فهو أجل الرجلين قدراً وأشهرهما ذكراً‏.‏وفيها توفي أبو الحسن الدهان علي بن موسى السعدي المصري المقرئ الزاهد قرأ القراءات وتصدر بالفاضلية وكان ذا علم وعمل‏.‏

وفيها توفي صاحب المغرب المرتضى أبو حفص عمر بن أبي إبراهيم القيسي المومني ولي الملك بعد ابن عمه المعتضد وامتدت أيامه وكان مستضعفاً دخل ابن عمه أبو دبوس الملقب بالوراث بالله إدريس مراكش فهرب المرتضى فظفر به عامل الواثق وقتله بأمره وأقام بالواثق ثلاثة أعوام ثم قامت دولة بني مريق وزالت دولة آل عبد المؤمن‏.‏

 سنة ست وستين وست مائة

فيها افتتح السلطان بلداناً كثيرة في بلاد الشام منها حصن الأكراد وأعمال طرابلس وأنطاكية وأخذها في أربعة أيام وحصر أعني أنطاكية وحصر من قتل بها وكانوا أكثر من أربعين ألفاً‏.‏

وفيها كانت الصعقة العظمى على غوطة يوم ثالث نيسان إثر حفظة السلطان عليها ثم صالح أهلها على ست مائة ألف درهم فأضر بالناس وباعوا بساتينهم بالهوان‏.‏

وفيها توفي خطيب الجبل إبراهيم ابن الخطيب شرف الدين عبد الله المقدسي كان فقيهاً إماماً بصيراً بالمذهب صالحاً عابداً مخلصاً منيباً صاحب أحوال وكرامات وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقول بالحق سمع من جماعة وقد جمع ابن الخباز سيرتة في مجلد‏.‏

وفيها توفي الحنش النصراني الكاتب ثم الراهب أقام بمفازة الإسكندرية بجبل حلوان بقرب القاهرة فقيل‏:‏ إنه وقع بكنز للحاكم صاحب مصر فواسى منه الفقراء والمستورين من كل ملة واشتهر أمره وشاع ذكره وأنفق في ثلاث سنين أموالاً عظيمة فأحضره السلطان وتلطف به فأبى عليه أن يعرفه حقيقة أمره وأخذ يراوغه ويغالطه فلما أعياه سلط عليه العذاب فمات وقيل‏:‏ إن مبلغ ما وصل إلى بيت المال من جهته في المصادرة في مدة سنتين ست مائة ألف دينار ضبط ذلك بقلم الصيارفة الدين كان يصبغ عندهم الذهب وقد أفتى غير واحد بقتله خوفاً على ضعفاء الإيمان من المسلمين أن يضلهم ويغويهم‏.‏

وفيها توفي صاحب الروم السلطان ركن الدين ابن السلطان غياث الدين السلجوقي كان هو وأبوه مقهورين مع التتار له الاسم ولهم التصرف فقتلوه بسبب أنه وشى به ونم عليه بأنه يكاتب الملك الظاهر فقتلوه خنقاً وأظهروا أنه رماه فرسه ثم أجلسوا في الملك غياث الدين وعمره عشر سنين‏.‏

وفيها توفي الضياء الطوسي الإمام العلامة شارح الحاوي الصغير والمختصر في الأصول الشيخ ضياء الدين عبد العزيز بن محمد الطوسي وكان فاضلاً درس في دمشق في التجيبية ثم توفي بها رحمه الله تعالى‏.‏

 سنة سبع وستين وست مائة

فيها نزل السلطان على حربة اللصوص ثم ركب وساق في البريد سراً إلى مصر فأشرف على ولده السعيد وكان قد استنابه بمصر ثم رد إلى الحربة وكانت الغيبة أحد عشر يوماً أوهم فيها أنه متمرض في المخيم‏.‏

وفيها توفي الإمام العلامة مجد الذين طي بن وهب القشيري المالكي شيخ أهل الصعيد ونزيل قوص والد الإمام المشهور المشكور تقي الدين ابن دقيق العيد وكان جامعاً لفنون من العلم موصوفاً بالصلاح والتأله معظماً في النفوس روى عن غير واحد‏.‏

 سنة ثمان وستين وست مائة

فيها تسلم الملك الظاهر حصون الإسماعيلية وقرر على زعيمهم حسن بن الشعراني أن يحمل كل سنة مائة ألف وعشرين ألفاً وولاه على الإسماعيلية وفيها بطلت الخمور بدمشق وقام في تبطيلها الشيخ خضر شيخ السلطان قياماً كلياً وكبس دور النصارى واليهود حتى كتبوا على أنفسهم بعد القسامة أنه لم يبق عندهم منها شيء‏.‏

وفيها توفي وقيل‏:‏ في سنة خمس وستين الفقيه الإمام العلامة البارع المجيد الذي ألين له الفقه كما ألين لداود الحديد الشيخ نجم الدين عبد الغفار القزويني الشافعي أحد الأئمة الأعلام وفقهاء الإسلام مصنف الحاوي المشتمل على الأسلوب الغريب والنظم العجيب المطرب في صنعته كل لبيب الذي قلت فيه القصيدة الموسومة بالحلاب الحالي في مدح الحاوي وهي‏:‏ لله ماذا حوى الحاوي مع الصغر من الملاح العوالي الخرد الغرر ألفاظه ومعانيه جلت وعلت أحلى وأغلى من الحلاب والدرر كم من صغير كبير القدر مشتهر وكم كبير صغير غير مشتهر هو الصغير الكبير القدر كم كتب قد فاق من كل مبسوط ومختصر ما طاعن فيه يقوي أن يعارضه لو عاش ما عاش نوح فيه من عمر ما ينقم الخصم إلا أنه عسر وكل عالي المعاني شاع بالعسر هل يستطيع الذي يخفي فضيلته يخفي ظهور ضياء الشمس والقمر حوى نفائس علم الشرع مشتملاً لمذهب الشافعي النير الزهر تاج الهدى معلماً بالنور مبتسماً در الأحاديث والإجماع والسور بدر الدجى منهج الحق المضيء ضياً شمس الضحى مدهبي فخري ومفتخري وقد نهضت لحاوي الدر منتصراً في ذم من ذمه من سائر البشر قدرت ضرب مثال رائق رشق للأخذ بالثأر كاف جاعلي قدر يقال فرد أتى كرماً به ثمر فلم ينل أخذ عنقود من الثمر فذمه قال‏:‏ من يبغيك ياتفها يا حامض الطعم يا أدنى جنى الشجر قد قيل لا ينفع البادي قراءته والمنتهى لا بما فيه لمفتقر حتى غلا القائل المذكور مدعياً أن لا يباع لذي بدر ولا حضر هذا غبي ولو قد شم رائحة للفقه أو ذاق طعم الفقه بالنظر لما أتى مثل هذا القول مجترياً ولا تخطى بهذا المسلك الوعر فذاك حبي ومحفوظي ومعتمدي ومنه أفتى به سمعي به بصري وفيه عرسي وتدريسي ومورده إليه وردي وعنه صادر صدري كذا صفات الورى تبدو لعمري في أسنا الكمال ويبدو النقص في أخر سبحان من بالكمال اختص منفرداً منزهاً عن جميع النقص والغبر حتى إلهي إماماً ذاك صنفه للعلم والدين لا للهو والنظر ذاك النجيب الذي شاعت براعته عبد لغفار ذنب الخفائف الحذر حبر له الفقه في التصنيف لان كما لان الحديد لداؤد بلا عكر وبعد ذا فالأئمة كلهم تبع للشافعي هم نجوم وهو كالقمر ولي فيه قصيدة أخرى دالية عددها كعدد هذه ثلاثون بيتاً وقد سلك في صنعته رحمه الله تعالى مسلكاً لم يلحق شاؤه فيه أحد من الفضلاء ولا قاربه وقد ذكر بضعهم أنه صنف كتاب الحاوي المذكور لولده جلال الدين وله إجازة من عفيفة الأصبهانية وكان والده فقيهاً إماماً أيضاً رحمهما الله‏.‏

وفيها توفى قاضي القضاة أبو الفضل يحيى ابن قاضي القضاة أبي المعالي محمد ابن قاضي القضاة أبي الحسن أبي قاضي القضاة منتجب الدين القرشي الدمشقي الشافعي تفقه على الفخر ابن عساكر وولي قضاء دمشق مرتين وكان صدراً معظماً معروفاً بالفضائل

وقال الذهبي‏:‏ له في ابن العربي عقيدة تجاوز حد الوصف قال‏:‏ وكان يفصل علياً على عثمان قلت‏:‏ وهذا من الذهبي العجب العجاب أما علم أن جماعة من أكابر أئمتنا المحققين ذهبوا إلى تفضيل علي على عثمان‏.‏

منهم الأئمة الجلة سفيان الثوري ومحمد بن إسحاق والحسين بن الفضل بل هو منسوب إلى أهل الكوفة قاطبة ولهذا قال الإمام سفيان الثوري لما سئل عن اعتقاده في ذلك‏:‏ أنا رجل كوفي‏:‏ وقد أوضحت رجحان الدليل على هذا في كتاب المرهم في الأصول وأن علياً رضي الله عنه اجتمع فيه من الفضائل في آخر عمره ما لم يكن في أوله وقد قدمت قصيدة ذكرت فيها التفضيل المذكور والإشارة إلى فضائل الكل منهم رضي الله تعالى عنهم في ترجمة علي كرم الله وجهه ولكن لو نسب إلى التشيع بسبب ما ذكر عنه في تاريخه من أنه هو القائل البيتين اللذين ذكرهما في كتابه ونسبهما إليه كان أنسب إذ في ذلك التصريح أن علياً رضي الله تعالى عنه هو الوصي حيث قال‏:‏ أدين بما دان الوصي ولا أرى سواه وإن كانت أمية محتدي ولو شهدت صفين خيلي لأعذرت وساء بني حرب هنالك مشهدي وأما ما ذكر من اعتقاده ابن العربي فليس هو مختصاً بذلك دون غيره فقد قدمت أن الناس في ذلك على ثلاثة مذاهب‏.‏

بعضهم اعتقده وغلا في تفضيله وبعضهم كفره وغلا في تكفيره وبعضهم توقف فيه ومن جملة الفقهاء الذين اعتقدوه الإمام الكبير الفاضل الشهير ابن الزملكاني وشرح كتابه ‏"‏ الفصوص ‏"‏ الذي هو أشد كتبه إشكالاً وقد تقدم أيضاً في ترجمة ابن العربي أنه شرحه ثم ذكر بعد ذلك أن أبا الفضل المذكور سار إلى خدمة هولاو فكرمه وولاه قضاء الشام وخلع عليه خلعة سوداء مذهبة فلما تولى الملك الظاهر أبعده إلى مصر وألزمه بالمقام بها وبها توفي‏.‏

 سنه تسع وستين وست مائة

فيها افتتح السلطان حصن الأكراد السيف ثم نازل حصن عكا وأخفه بالأمان فبذل له صاحب طرابلس وبذله ما أراد وعانه عشر سنين‏.‏

وفيها جاء سيل عرم فغلقت أبواب دمشق وطفى الماء وارتفع وأخذ البيوت والجمال والأموال وارتفع عند باب الفرح ثمانية أفرع حتى طلع الماء فوق أسطحة عديدة وضب الخلق وابتهلوا إلى الله وأشرف الخلق على التلف ولو ارتفع ذراعاً آخر لغرق نصف دمشق‏.‏

وفيها توفي الإمام قاضي حماة شمس الدين إبراهيم بن المسلم بن هبة الله الحموي الشافعي كان ذا علم ودين تفقه بالفخر ابن عساكر وأعاد له ودرس بالرواحية لم تحول إلى حماة ودرس بها وأفتى وصنف‏.‏

وفيها توفي إبراهيم بن يوسف الحموي المعروف بابن قرقول بضم القافين وسكون الراء بينهما وبعد الواو لام صاحب كتاب مطالع الأنوار وصنفه على منوال كتاب ‏"‏ مشارق الأنوار ‏"‏ للقاضي عياض‏.‏

كان من الأفاضل صحب جماعة من علماء الأندلس توفي يوم الجمعة أول وقت العصر وكان قد صلى الجمعة في الجامع فلما حضرته الوفاة تلا سورة الإخلاص وجعل يكررها بسرعة ثم تشهد ثلاث مرات وسقط على وجهه ساجداً فوقع ميتاً رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها توفي الشيخ صلاح المقرئ حسن بن عبد الله الأزدي الصقلي قرأ القراءات على السخاوي وسمع الكثير وأجاز له المؤيد الطوسي وكان ورعاً مخلصاً متقللاً من الدنيا‏.‏

وفيها توفي ابن سبعين الشيخ الملقب بقطب الدين عبد الحق بن إبراهيم المرسي المتصوف‏.‏

قال الذهبي‏:‏ كان من زهاد الفلاسفة ومن القائلين بوحدة الوجود له تصانيف وأتباع يقدمهم يوم القيامة توفي بمكة كهلاً‏.‏

انتهى كلامه‏.‏

قلت‏:‏ وكذلك سمعت كثيراً من أهل العلم ينسبونه إلى الفلسفة وعلم السيمياء ويحكون عن حكايات في ذلك وأصحابه يعظمونه تعظيماً عظيماً وكان له جاه كبير عند صاحب عكة وبسبب ذلك وعداوته وخوف شره ونكايته‏.‏

خرج الشيخ الإمام قطب الدين القسطلاني من سنة سبعين وست مائة فيها توفي أبو الفضائل الكمال سلار بن الحسن الإربلي الشافعي المفتي صاحب ابن صلاح‏.‏

وفيها توفي ابن يونس الإمام العلامة تاج الدين عبد الرحيم ابن الفقيه الإمام رضي الدين محمد ابن الإمام العلامة الكبير عماد الدين محمد بن يونس الموصلي الشافعي مصنف التعجيز في اختصار الوجيز كان من بيت الفقه والعلم بالموصل وتولى القضاء للجانب الغربي ببغداد‏.‏

وفيها توفي ابن صصري القاضي الرئيس عماد الدين محمد بن سالم ابن الحافظ أبي المواصب الثعلبي الدمشقي سمع من جماعة قال الذهبي‏:‏ كان كامل السؤدد متين الليانة وافر الحرمة‏.‏

 سنة إحدى وسبعين وست مائة

فيها توفي الحافظ أبو المظفر يوسف بن الحسن المعروف بالشرف ابن النابلسي سمع وكتب الحديث الكثير وكان فهماً يقظاً حسن الحفظ مليح النظم ولي مشيخة دار الحديث النورية‏.‏

وفيها توفي ابن العامل المحدث العامل محمد بن عبد المنعم أحد من له اعتناء بالحديث‏.‏

وفيها توفي عبد الهادي بن عبد الكريم القيسي المصري المقرئ الشافعي قرأ القراءات السبعة وسمع من جماعة كان صالحاً كثير التلاوة‏.‏

فيها توفي المؤيد ابن القلانسي أبو المعالي أسعد بن المظفر بن أسعد التميمي حدث بمصر ودمشق‏.‏

وفيها توفي الأتابك الأمير الكبير فارس الدين أقطايا الصالحي أمره أستاذ الملك الصالح ولي نيابة السلطنة للمظفر قطر فلما قتل قطر قام بع الملك الظاهر وسلطنه في الوقت وكان من رجال العالم حزماً وعقلاً ورأياً ومهابةً وناب مدة للملك الظاهر‏.‏

وفيها توفي ابن مالك إمام العربية العلامة‏.‏ترجمان الأدب وحجة لسان العرب أبو عبد الله محمد بن عبد الله الطائي الجياني الشافعي النحوي اللغوي صاحب التصانيف وواحد الزمان في علم اللسان روى عن السخاوي وغيره وأخذ النحو عن غير واحد وتقدم وساد في علم النحو والقراءات وربا على كثير ممن تقدمه في هذا الشأن مع الدين والصدق وحسن السمت وكثرة النوافل وكمال العقل والوقار والتودد وانتفع به الطلبة وله من التصانيف تسهيل الفوايد والكافية الشافية وشرحها والألفية وأشياء كثيرة وممن روى عنه ولده الإمام الملقب ببدر الدين محمد والشيخ علاء الدين ابن العطار وجماعة وتوفي بدمشق في عشر الثمانين‏.‏

وفيها توفي النجيب عبد اللطيف بن عبد المنعم أبو الفرج الحراني مسند الديار المصرية‏.‏

فيها توفي الحافظ المحدث وجيه الدين منصور بن سليم الهمداني الاسكندراني سمع الكثير وخرج تاريخاً للإسكندرية وأربعين حديثاً بلدية ودرس وولي حسبة بلده‏:‏ وفيها توفي قاضي القضاة شمس الدين عبد الله بن محمد الأوزاعي الحنفي المشار إليه في مذهبه مع الدين والتواضع والصيانة والتعفف‏.‏

 سنة أربع وسبعين وست مائة

فيها توفي شيخ الأدب محمود بن عايذ التميمي الشاعر المجيد كان قانعاً زاهداً معمراً وفيها توفي شيخ الشيوخ سعد الدين الخضر ابن شيخ الشيوخ تاج الدين عبد الله ابن شيخ الشيوخ أبي الفتح عمر بن علي ابن القدوة الزاهد محمد بن حموية الحموي ثم الدمشقي‏.‏

وفيها توفي ظهير الدين أبو البنا محمود بن عبد الله الريحاني الشافعي المفتي أحد مشايخ الصوفية صحب الشيخ شهاب الدين السهروردي وروى عنه وعن غيره وتوفي في رمضان وله سبع وسبعون سنة‏.‏

 سنة خمس وسبعين وست مائة

فيها كاتب أمراء الروم الملك الظاهر وقووا عزمه على أخذ الروم فسار وقطع البلاد ثم وقع صاحب مقدمته سنقر الأشقر على ثلاثة آلاف من التتار فهزمهم وأسر منهم وأشرف الجيش من الجبال فإذا بالتتار قد بعثوا أحد عشر طلباً والطلب ألف فارس فلما التقى الجمعان حملت ميسرتهم فصادموا صناجق السلطان يعني راياته وعطفوا على ميمنة السلطان فرد فيها بنفسه وحمل بها حملة صادقة فترحلت التتار وقاتلوا أشد قتال فأخذتهم السيوف وأحاطت بهم العساكر المحمدية حتى قتل أكثرهم وقتل من أمراء المسلمين جماعة ثم سار الملك الظاهر يحرق مملكة الروم ونزل إليه ولاة القلاع وقدم سنقر الأشقر لتطمئن الرعية ثم وصل قيصرية الروم فتلقاه أعيانها وترحلوا ودخلها وجلس على سرير ملكها وصلى الجمعة بجامعها ثم بلغه أن أعداء الله عازمون على طلبه فرحل عنها فجرى بعده بالروم خبطة ومحنة عظيمة فقصدهم أبغا فقال‏:‏ أنتم باغون علينا ووضع السيف فيهم ولم يقبل لهم عذراً فيقال‏:‏ إنه قتل من الروم ما يزيد على مائتي ألف فهم مسلمون فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏وفيها توفي الشيخ أبو المعالي أحمد بن عبد السلام المعروف بابن أبي عصرون التميمي الشافعي صاحب تونس محمد بن يحيى بن عبد الواحد وكان ملكاً صاحب سياسة وعلو همة شديد البأس جواداً ممدوحاً تزف إليه كل ليلة جارية‏.‏

تملك تونس بعد أبيه ثم قتل عميه سنة ست وسبعين وست مائة في أولها قدم السلطان الملك الظاهر فنزل نحو سفة الأبلق ثم مرض يوم نصف المحرم وتوفي بعد ثلاثة عشر يوماً فأخفي موته وسار ابنه وهو يوهم أن السلطان مريض إلى أن دخل مصر بالجيش فأظهر موته وعمل العزاء وحلفت الأمراء للملك السعيد والملك الظاهر هو ركن الدين أبو الفتوح شوس التركي الصالحي النجمي صاحب مصر والشام اشتراه الأمير علاء الدين الصالحي فقبض الملك الصالح على علاء الدين المذكور وأخذه وكان من جملة مماليكه ثم طلع شجاعاً فارساً إلى أن بهر أمره وبعد صيته وشهد وقعة المنصورة بدمياط ثم صار أميراً في الدولة المعزية وتقلبت به الأحوال إلى أن ولي السلطنة في سابع عشر في القعدة سنة ثمان وخمسين وست مائة وكان ملكاً سرياً غازياً مجاهداً مؤيداً عظيم الهيبة خليقاً للملك يضرب بشجاعته المثل له أيام بيض في الإسلام وفتوحات مشهورة ومواقف مشهورة ولولا ظلمه وجبروته في بعض الأحيان لعد من الملوك العادلين والسلاطين الممدوحين بحسن السيرة المشكورين‏.‏

انتقل إلى عفو الله ورحمته في الثامن والعشرين من المحرم بقصره بدمشق وخلف من الأولاد الملك السعيد محمد والخضر وسلامس وسبع بنات ودفن بتربة أنشأها ابنه‏.‏

وفي سنة ست وسبعين المذكورة توفي إمام اليمن وبركة الزمن قدوة الفريقين وشيخ الطريقين الفقيه الكبير الولي الشهير صاحب الكرامات الباهرة والبركات الظاهرة والأنفاس الصالحة والمواهب المانحة والهداية والصفا والعناية والاصطفا أبو الذبيح إسماعيل ابن السيد الجليل الولي الحفيل الحافظ المحدث إمام عصزه وبركة دهره محمد بن إسماعيل المشهور بالحضري كان من أعلى الفقهاء مرتبة في العلم والصلاح والزهد والكرامات‏.‏

اشتغل بعلم الفقه على والده المذكور وتبخر فيه وبرع في معرفة المذهب وشرح كتاب المهذب وله كلام في الفقه والتصوف وفتاوى مجموعة وبعض تواليف أخرى منها مختصر صحيح مسلم وكتاب نفائس العرائس وسمع الحديث والتفسير وما يدل على ذلك إجازته بخطه الذي وقفت عليه وهو ما صورته‏.‏

‏"‏ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على النبي وآله وأصحابه وسلم ثم قال‏:‏ في أثناء كلامه حصل على المولى الفقيه والولد المحبوب في الله تعالى إبراهيم بن محمد بن سعيد جميع كتاب التنبيه في الفقه بقراءته وقراءة غيره وقد أجزت له روايته بروايتي عن والدي رحمه الله بروايته عن الإمام العالم العابد محمد بن كبانة‏.‏

بضم الكاف وفتح الموحدة قبل الألف والنون بعدها بروايته عن الإمام العالم يحيى بن عطية بروايته عن الإمام محمد بن عبدويه عن المصنف وقد أجزت له روايته عني وأن يروى عني جميع ما يجوز لي روايته من كتب الحديث والتفسير والفقه وجميع ما جمعته ولأولاده وإخوته ولجميع قراباته نفع الله الجميع بذلك وغفر للجميع وتاب على الجميع وكتب إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الحضرمي وكان ذلك في شهر شوال سنة سبع وستين وست مائة وصلى الله تعالى على النبي وآله وسلم ‏"‏ انتهى

وتفقه به جماعة كبار منهم الفقيه القدوة النجيب الولي العارف بالله وافر الحظ والنصيب ذو المحاسن والكرامات العديدة والفضائل والسيرة الحميدة عبد الله بن أبي بكر الخطيب اليمني المدفون في موزع بفتح الميم والزاي قدس الله روحه وهو أول من اشتغل عليه وأخص أصحابه ومنهم العلامة المفيد الكبير المحصول الماهر في الفقه البارع أحمد المعروف بابن الزنبول‏.‏

اشتغل عليه مدة طويلة في الفقه ثم حصل بينهما بعض شيء نفر منه قلت‏:‏ ابن الزنبول فانقطع عنه وكان في خلقه بقور فجاءه الفقيه إسماعيل مع جلالته وفضله المشهور واسترضاه فقال له ابن الزنبول‏:‏ أتحسب أني لا أجد مثلك فبكى إسماعيل ولبس حلة المحاسن والإنصاف والتواضع والاعتراف والتنزل إلى منزلة الإنصاف وقال له‏:‏ بلى يا أحمد تجد مثلي ولا أجد مثلك ومنهم الإمام العلامة القاضي جمال الدين أحمد بن علي العامري شارح التنبيه وقاضي المهجم ومنهم الفقيه علي بن أحمد بن سليمان العبسي الجحفي وغيرهم‏.‏

قلت‏:‏ وبلغني أن رجلاً سأله عن مسألة في أفتيا جاء بها إليه بعد أن جاء بها السائل إلى الفقيه الإمام الحفيل الولي الشهير الجليل أحمد بن موسى بن عجيل رضي الله تعالى عنه وعن الجميع فأجابه الفقيه إسماعيل بجواب مخالف لجواب الفقيه أحمد فبقي الرجل متحيراً بأي الجوابين يأخذ فقال إسماعيل خذ بجوابنا فدباغنا في الفقه أقوى من دباغهم‏.‏

قلت‏:‏ لقد أحسن في هذا المقال باستعارته الدباغ للاشتغال وبلغني أيضاً أن الفقيهين المذكورين المشهورين كان أحدهما أفقه من الآخر والآخر أكثر نقلاً منه وقد جمع عنهما كلام في الفقه في جزء لطيف وكلاهما كان يحضر مجلس شيخ الشيوخ الأكابر بحر الحقائق المواج الزاخر‏.‏

صاحب السيف الماضي الصيقل شيخ زمانه أبي الغيث بن جميل قدس الله روحه ولكن الفقيه إسماعيل أكثر حضوراً وملازمة للشيخ المذكور وإليه كان ينسب في التصوف حتى بلغني عنه أنه قيل له كلام معناه ما نقول عنك إذا سألنا أفقيه أنت أم صوفي فقال‏:‏ بل صوفي وشيخي في التصوف الشيخ أبو الغيث بن جميل‏.‏

وله رضي الله تعالى عنه من الكرامات العظام ما يطول في ذكرها الكلام وقد ذكرت بعضها في غير هذا الكتاب‏.‏

منها وقوف الشمس له حتى بلغ مقصده لما أشار إليها يالوقوف في آخر النهار وهذه الكرامة مما شاع في بلاد اليمن وكثر فيها الانتشار‏.‏

ومنها أنه شوهدت الكعبة في الليل تطوف بسريره في حال يقظة المشاهد‏.‏

ومنها أنه نادته سدرة والتمست منه أن يكل هو وأصحابه من ثمرها ومنها شفاعته في قوم سمعهم يعذبون في المقابر ومنها أن الملك المظفر صاحب اليمن كان يقول لحجابه‏:‏ لا تخلوه يدخل علي حتى تستأذنوني خوفاً من أن يراه ملابساً بما ينكر عليه فما يشعر إلا وقد دخل عليه من حيت لا يراه البواب ولا يشعر الحجاب وكاد الجله من العلماء وعيرهم يقبلون قدمه لإشارة اشتهرت عنه في ذلك‏.‏

وقد أخبرني الفقيه الإمام القاضي نجم الدين الطبري رحمه الله أنه زاره هو وجده الإمام العلامة محب الدين الطبري وأنهما قبلا قدمه‏.‏

وأخبرني القاضي نجم الدين رحمه الله المذكور أنه نعى بمكة والسيد المشهور ابن عجيل المذكور يومئذ فيها فقال‏:‏ أرجو من الله أن يفديه بمائة فقيه ثم جاء الخبر أنه حي لم يمت وكان قد ولاه الملك المظفر قاضياً على قضاة اليمن ولكن كان هو السلطان ما أمر به السلطان كان وكان كتب إليه في شقف من خزف‏:‏ يا يوسف فما تبه إلى سلطان في ذلك وقال‏:‏ هب أنك موسى ولست بموسى وهب أني فرعون ولست بفرعون وفي رواية أخرى أرسل من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمر الله تعالى باللطف به واللين إليه فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ قولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ‏"‏ ‏"‏ سورة طه‏:‏ 44 ‏"‏ إما تكتب إلي في ورقة بفلس وكان إذا كشف له أن الحق في جانب من ترجحت حجة خصمه في ظاهر الشرع يصرفها إلى حاكم آخر‏.‏

قلت‏:‏ وهذا حسن جداً فإنه لا يمكنه أن يحكم بالحكم الباطن وقد أمر الشوع أن يحكم بالظاهر بخلاف ما يظهر له بالعلم الباطن فترك الحكم بهما جميعاً احتياطاً وأدباً مع الشرع وأرى هذا أحسن وأسلم مما كان يفعله غيره من القضاة من أكابر الأولياء من الحكم مما يكشف له من علم الباطن‏.‏

ومنهم السيد الكبير الولي الشهير الشيخ عبد الرحمن النويري رضي الله تعالى عنه فإنه كان يقول‏:‏ ما يمكنني إذا قالت لي البقرة‏:‏ أنا لفلان أحكم بها لخصمه وكان سبب ولاية إسماعيل المذكور قضاء القضاة أن الملك المظفر استدعى به وبابن العجيل وبابن الهرمل فسار إليه هو وابن الهرمل ومرا على ابن العجيل فقال لهما‏:‏ لو قد عزمتما كان رأيي أن لا تذهبا إليه ولكن إذ قد عزمتما فلي إليكما حاجة وهي أن لا تذكر أني عنده فإن ذكرني فقولا له‏:‏ هو في عش في البادية‏:‏ فإن تركته وإلا سافر إلى بلاد الحبشة وخلي لك البلاد فقال له إسماعيل‏:‏ يا فقيه أحمد إن الله قد استرعانا عليه كما استرعاه على الرعية فنحن نأمره وننهاه فإن قبل منا فهو المطلوب وإلا كنا قد خرجنا عن العهدة ثم سافر إليه إلى تعز فلما اجتمعا به استقضى الفقيه إسماعيل فأقام قاضياً للقضاة مدة ثم عزل نفسه وكان مع كبر شأنه وزهده في الدنيا كثير التزوج جداً حتى قال لبعض ذريته‏:‏ لا تتزوجوا من نساء زبيد فإني أخشى أن تقعوا في بعض المحارم لكم‏.‏وروي عنه أنه قال‏:‏ كل شيء قدرت على الزهد فيه إلا المرأة الحسناء والدابة النفيسة‏.‏

وقال‏:‏ رضي الله تعالى عنه‏:‏ حصل لي اجتماع بجماعة من المشائخ المتقدمين في حال اليقظة وكل واحد منهم أفادني فائدة ومجموع ذلك من لم يفارق تعب ومن نظر إلى نفسه بعين المراءاة عطب إن وجدت في الحنيا ما يبقى لك وتبقى له فاعكف عليه من وقف مع العوائق لحظة أو ثقته ما تبقى من السم قاتل وإلا فممرض إنك ميت وإنهم ميتون فلا يتعلق بهم من لم يكفه لفظه لم ينتفع بالقناطير المقنطرة‏.‏

والجماعة المذكورون أصحاب سبع الوصايا هم هؤلاء السبعة أبو يزيد وذو النون وبشر الحافي والجنيد والسري والشبلي وأبو أيوب رضي الله تعالى عنهم ونفع بهم كل واحد منهم جاء بكلمة من الكلمات المذكورات‏.‏

ومما وجد بخطه رضي الله تعالى عنه من الخطاب الذي سمعه فارق الناس أحسن ما كانوا عليه وتتبع خلوات الفلاح في زاوية الجوع والعطش تجني عند ذلك وأبغض خراب الاهتمام وسمعني أطيط رحال المفارقة في بيداء الثقة بي والتوكل علي وحنين الشوق وأنين الخوف ومما وقع له أيضاً من الخطابات المشهورة عنه‏:‏ يا إسماعيل إنا مشتاقون إليك فهل أنت مشتاق إلينا أو فما هذا التخلف فقاد‏:‏ يا رب عوقتني الذنوب فقال‏:‏ قد غفرنا لك ولأهل تهامة من أجلك‏.‏

وكان رضي الله تعالى عنه في بدايته معتزلاً عن الناس مختليا بنفسه قيل‏:‏ وكان يقتات من النبق أوقات البداية وكان ابن عجيل مع جلالة قدره يتأدب معه ويقول‏:‏ نحن محبون وهو محبوب وتلقاه في وقت وسار معه ماشياً وهو راكب وحجا معاً في سنة واحدة ومعهما ركب اليمن فلما قربوا من مكة تلقاهم الشريف أبو تمي وكان ابن عجيل معروفاً يعرفه الشريف وغيره لكثرة تردده إلى مكة والمدينة وكان أبو تمي عليه ثياب حرير فانقض عليه الفقيه إسماعيل كانقضاض البازي على الفريسة وأخذ بطوقه وقال‏:‏ أتلبس هذا الذي لا يلبسه إلا من لا خلاق له في الآخرة أو قال‏:‏ عند الله فبقي الشريف المذكور مبهوتاً ينظر إلى ابن عجيل وكان إذ ذاك مستقلاً بولاية مكة وسلطنتها فقال له‏:‏ يا شريف أتدري من هذا هذا الفقيه إسماعيل الأرعن على ربه لو تغير علينا هلكنا جميعاً كلنا‏.‏

قلت‏:‏ وله من الفضائل والمحاسن والمفاخر ما يطول ذكره بل يتعذر حصره ولا تحتمل بعضه العقول القواصر وإليه ينتسب بعض شيوخنا رضي الله تعالى عنهم وإلى ذلك أشرت بقولي في وذا قول إسماعيل شمس الهدى الولي‏:‏ مقر الهدى المشهور شيخ شيوخنا إمام الفريقين الحبيب المدلل هو الحضري المشهور من وقفت له يقول‏:‏ قفي شمس لأبلغ منزلي إليه الإشارة أيضاً بقولي في أخرى في أثناء التغزل بشيوخ اليمن‏.‏

وجود الضحى شمس الضحى حضرمية مدللة تزهو بعالي المنازل وقولي‏:‏ وجود الضحى هو بفتح الضاد المعجمة وكسر الحاء المهملة اسم القرية الساكن فيها وقولي‏:‏ أيضاً في الغزل‏:‏ بأخرى في الشيخ أبي الغيث وفيه وفي ابن عجيل‏:‏ يبيت ذو عطاء عيطبول حرود بحبه جود الزمان وجود في الضحى أضحت بحسن زها تختال فاقت للغواني كجود للمغاربة اغتراها حصان في حيا حسن رزان وإليه أشرت أيضاً في أخرى بقولي‏:‏ هو الحضرمي نجل الولي محمد إمام الهدى نجل الإمام الممجد له كم خطت كم ذللت ثم عللت عنايات فضل ليس تدرك باليد مدل ومحبوب وفي كلفة العنا عظيم كرامات بجاه وسؤدد توفي رحمه الله تعالى في قريته المعروفة بالضحى من أعمال تهامة المهجم‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي الفقيه الإمام شيخ الإسلام مفتي الأنام المحدث المتقن المحقق المدقق النجيب الحبر المفيد القرب البعيد محرر المذهب ومهذبه وضابطه ومرتبه أحد العباد الورعين الزهاد العالم العامل المحقق الفاضل الولي الكبير السيد الشهير المحاسن العديدة والسيرة الحميدة والتصانيف المفيدة الذي فاق جميع الأقران وسارت بمحاسنه الركبان واشتهرت فضائله في سائر البلدان وشوهدت منه الكرامات وارتقى في على المقامات ناصر السنة ومعتمد الفتاوى الشيخ محيي الدين النواوي يحيى بن شرف بن مري بن حسن الشافعي مؤلف الروضة والمنهاج والمناسك وتهذيب الأسماء واللغات وشرح صحيح مسلم وشرح المهذب وكتاب التبيان وكتاب الإرشاد وكتاب اليسير والتقريب وكتاب رياض الصالحين وكتاب الأذكار كتاب الأربعين وكتاب طبقات الفقهاء الشافعية اختصره من كتاب ابن صلاح وزاد عليه أسماء نبه عليها وغير ذلك مما اشتهر في سائر الجهات وظهر به النفع والبركات‏.‏قال بعض المؤرخين وأهل الطبقات‏:‏ ولد سنة إحدى وثلاثين وست مائة في العشر الأوسط من المحرم وقدم دمشق في سنة تسع وأربعين وقرأ التنبيه في أربعة أشهر ونصف وحفظ ربع المهذب في بقية السنة ومكث قريباً من سنتين لا يضع جنبه على الأرض وكان يقرأ في اليوم اثني عشر درساً على المشائخ شرحاً وتصحيحاً في المهذب والوسيط والجمع بين الصحيحين وصحيح مسلم وأسماء الرجال ‏"‏ واللمع ‏"‏ لأبي إسحاق في أصول الفقه ‏"‏ واللمع ‏"‏ لابن جني في النحو وإصلاح المنطق لابن السكيت في التصريف والمنتخب في أصول الفقه وكتاب آخر في الأصول لم يسموه وكان له في الوسيط درسان‏.‏حكوا عنه أنه قال‏:‏ عزمت مرة على الاشتغال بالطب فاشتريت القانون فأظلم على قلبي وبقيت أياماً لا أشتغل بشيء فتفكرت فإذا هو من القانون فبعته في الحال‏.‏

قالوا‏:‏ وكان لا يدخل الحمام ولا يكل من فواكه دمشق ولا يأكل في اليوم والليلة سوى أكلة بعد العشاء ولا يشرب شربة إلا في وقت السحر وكان كثير السهر في العبادة والتلاوة والتصيف‏.‏صابراً على خشونة العيش والورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه ولا قبله وكان نزوله في المدرسة الرواحية‏.‏

قلت‏:‏ وسمعت من غير وأحد أنه إنما اختار النزول بها على غيرها لحلها إذا هي من بناء بعض التجار‏.‏قالوا‏:‏ وحفظ التنبيه في سنة خمسين وست مائة وحج مع أبيه سنة إحدى وخمسين وذكر والده أنه حم من حين خروجه من بلده إلى يوم عرفة فما تأوه ولا تفجر ولزم الاشتغال ليلاً ونهاراً حتى فاق الأقران وتقدم على جميع الطلبة وحاز قصب السبق في العلم والعمل وسمع الكثير من القاضي الرضي بن برهان الدين ابن خالك وشيخ الشيوخ عبد العزيز الحموي وجماعة منهم شيخه الكمال وإسحاق بن أحمد المغربي وسمع صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داؤد والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارقطني وشرح السنة ومسند الإمام الشافعي والإمام أحمد وأشياء كثيرة وأخذ علم الحديث عن عز الدين بن خالد وروى عنه جماعة من أئمة الفقهاء والحفاظ‏.‏

منهم الإمام علاء الدين بن العطار والشيخ أبو الحجاج المزرعي والقاضي محي الدين المزرعي والإمام شمس الدين ابن النقيب وهو آخر من بقي من أعيان أصحابه وخلق كثير‏.‏

قلت‏:‏ ومنهم الشيخ المبارك الناسك جبرائيل الكردي وعليه سمعت الأربعين قالوا‏:‏ وكان الشيخ محيي الدين النواوي متبحراً في العلوم متسعاً في معرفة الحديث والفقه واللغة وغير ذلك مما قد سارت به الركبان رأساً في الزهد قدوة في الورع عديم النظير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يواجه الأمراء والملوك بذلك ويصدع بالحق ولقد أنكر على الملك الظاهر حتى أغضبه وهم به البطش فوقاه الله شره ثم قبل منه وعظمه حتى كان يقول‏:‏ أنا أفزع منه قالوا‏:‏ وكان لا يؤبه له بين الناس‏.‏قانعاً باليسير راضياً عن الله والله عنه راضٍ مقتصد إلى الغاية في ملبسه ومطعمه وأثاثه ولي مشيخة دار الحديث وكان لا يتناول من معلومها شيئاً بل يقتنع قلت‏:‏ ورأيت لابن العطار جزءاً في مناقبه‏.‏

ذكر فيه أشياء عزيزة من فضائله ومحاسنه وكراماته واشتغاله بالعلم واستعماله وجميل سيرته وشدة ورعه وزهادته وغير ذلك مما لم يعرف لأحد من العلماء بعده‏.‏

قلت لعمري إنه عديم النظير في زهده وورعه وآدابه وجميل سيرته وسائر محاسنه فيمن بعده من العلماء‏.‏

اللهم إلا أن يكون السيد الجليل ذو المجد الأثيل والوصف الجميل الفقيه الإمام ذو الآيات العظام زين اليمن وبركة الزمن من أحمد بن موسى المعروف بابن عجيل الآتي ذكره في سنة تسعين وقل وعز أن يعرف لهما قبلهما أيضاً نظير في ما اتصفا به من سائر المحاسن مع صغر سنهما ولا شك أن الإمام محيي الدين النواوي مبارك له في عمره ولقد بلغني أنه حصلت له نظرة جمالية من نظرات الحق سبحانه بعد موته فظهرت بركتها على كتبه فحظيت بقبول العباد والنفع في سائر البلاد وقد اختلف الناس فيما اختلف فيه هو والإمام الرافعي والفقهاء في بعض الجهات‏.‏

يرجحون قول الرافعي‏.‏

وفي بعضها يرجحون قوله والذي أراه أن كلما اعتضد فيه بحديث يصح الاحتجاج به فقوله‏:‏ مقدم لا سيما وقد صح عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ إذا صح الحديث فهو مذهبي وكذلك إن لم يعتضد بحديث لكن تكافأت الأدلة لكونه موافقاً مؤيداً مباركاً مسدداً‏.‏

وإن ترجحه الأدلة في أحد الطرفين وذكروا أن ترك كله لفواكه دمشق إنما هو ورع لما في بساتينها من الشبه في ضمانها والحيلة فيه صرح هو رضي الله عنه بذلك ومن المشهور أنه كان يقتدي ببعض المشائخ من الصوفية وهو الشيخ الشهير العارف بالله الخبير الولي الكبير ياسين المزين ويتأدب معه ويجالسه ويقبل إشارته‏.‏

وأخبرني بعض العلماء الشاميين أنه أشار عليه قبل موته بقليل يرد ما عنده من الكتب المستعارة وزيارة أهله في بلده ففعل ذلك ثم توفي عندهم في الرابع والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وست مائة وفي لحيته شعرات بيض‏.‏قلت‏:‏ واعتقاد هذا السيد الكبير المتضلع من علوم المشائخ الصوفية وصحبتهم ومحبتهم على العموم من أقوى الحجج الظاهرة على المنكرين عليهم من الخصوم ومن كل طاعن فيهم محروم وقد صرح في كتابه الأذكار المشتمل على الفضائل الجمة يكون الصوفية من صفوة هذه الأمة وقد رأيت له مناماً يدل على عظم شأنه ودوام ذكره لله وحضوره وعمارة أوقاته وشدة هيبته وتعظيم وعلى تعالى ووعيده وحياته بعد موته وكلمني ودعا لي وغير ذلك مما لا تضبطه العبارة مما تميز به عن العلماء والعبادة‏.‏وقد أشرت إلى شيء من ذلك في كتاب الإرشاد قدس الله روحه ونور ضريحه ودعاءه الذي دعا لي هو هذا وفقك الله وزادك فضلاً أو قال‏:‏ من فضله وثبتك بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏.‏

وممن دعا لي أيضاً من الأولياء بعد وفاته شيخ شيخنا السيد الجليل المقدار الذي جمع من المحاسن ما لا يدخل تحت الإنحصار أبو الخطاب عمر بن علي المعروف بابن الصفار رحمه الله تعالى وهذا دعاؤه‏:‏ أصلحك الله صلاحاً لا فساد له أو لا فساد معه في منام رأيته‏.‏

أسأل الله الكريم أن يتقبل ذلك منهما وأن يرزقنا بركتهما آمين آمين‏.‏

رجعنا إلى ذكر الشيخ محيي الدين ولقد بلغني أنه كان تجري دموعه على خده في الليل ثم ينشد

لئن كان هذا الدمع يجري صبابة على غير ليلى فهو لا شك ضائع ورثاه غير واحد من الشعراء بمراثي حسنة رحمه الله تعالى ونفعنا ببركته‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي السلطان الملك الظاهر كما تقدم‏.‏

وفيها توفي الجريدلة الظاهري نائب سلطنة مولاه وكان نبيلاً عالي الهمة وافر العقل محبباً إلى الناس منطوياً على دين ومروءة ومحبة للعلماء والصلحاء ونظر في العلم والتواريخ رقاه أستاذه إلى أعلى المراتب واعتمد عليه في مهماته‏.‏

قيل إن شمس الدين الفارقاني الذي ولي نيابة السلطنة سقاه السم باتفاق مع أم الملك وفيها توفي الشيخ خضر بن أبي بكر المهراني العدوي شيخ الملك الظاهر كان له حال وكشف قيل‏:‏ مع سفه فيه ومردكه ومزاح‏.‏

تغير عليه للسلطان بعد شدة خضوعه له وانقياده لإرادته وعقد له مجلساً وأحضر من خافقه ونسب إليه أموراً فظيعة وأشاروا فيها بقتله والله أعلم‏.‏

بصحة ذلك فقال للسلطان‏:‏ إن بيني وبينك في الموت شيئاً يسيراً فوجم لها السلطان وحبسه في سنة إحدى وسبعين إلى أن توفي في سادس محرم السنة المذكورة وتوفي السلطان المذكور في الثامن والعشرين عن المحرم كما تقدم‏.‏

وفيها توفي الزكي بن الحسن المعروف بالبيلقاني أبو أحمد الشافعي الفقيه البارع المناظر كان متقدماً في الأصولين وغيرهما من المعقولات‏.‏

أخذ عن الإمام فخر الذين الرازي وسمع من المؤيد الطوسي وكان صاحب ثروة وتجارة وعمر دهراً وسكن اليمن وتوفي بعدن قلت‏:‏ وقد رأيت بعض فريته بها ناظراً للسلطان له عند أهل الدنيا صورة وكبرشان كذا قال بعض المؤرخين‏.‏

وقال بعض أهل الطبقات البيلقاني أبو المعالي الفقيه الشافعي الأصولي العلامة الشهير الأوحد شمس الدين‏.‏

تفقه بجماعة منهم الإمام فخر الأنام محمد بن أبي بكر التوقاني‏.‏

قرأ عليه كتاب الوجيز بقراءته على شيخه الإمام نور الدين محمد بن محمد التوقاني بقراءته على شيخه الإمام العلامة الشهيد أبي سعيد محمد بن يحيى النيسابوري بقراءته له على شيخه ومصنفه الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي وتفنن في العلوم بالعلامة قطب الدين إبراهيم بن علي الأندلسي المعروف بالمصري وعاش خمساً وتسعين سنة وتفقه به جماعة وانتفعوا به ورووا عنه‏.‏قلت‏:‏ وبلغني فيما أظن أن بركه الزمن وزين اليمن الإمام العلامة عالي المقامات وعظيم الكرامات أبا الفدا إسماعيل ابن الشيخ الإمام علي المقام محمد بن إسماعيل الحضرمي قرأ على البيلقاني المذكور والله أعلم‏.‏